صحراء نفود الشمال المتراكمة بين الجوف وحائل ,كانت الى عهد قريب تشبه الصندوق المقفل لا أحد يعرف ما بداخلها, يسكنها خلق كثيرون من غير البشر منها قطعان الظبا وأسراب القطا والحبارى,يسرحون ويمرحون يتزاوجون ويتكاثرون يعيشون بأمن وامان ورعاية الرحمن.
لا أحد يتجرأ على عبورها قاصداً حائل او العكس ,إلا ماندر ممن تتوفر في نفوسهم حب المغامرة ولا تعرف قلوبهم الخوف وتتوفر لديهم ركائب عدلة وقوية تتحمل العطش واذا حصل ذلك يكونون في مجموعات اقلها ثلاث واكثرها خمس يحملون معهم ما يكفيهم من الماء في قربٍ من جلد الشاة وقليل من التمر, لا تتعرض رؤسهم للدوار او فقد الاتجاهات.
ليس بها مسالك ولا يعرفون اين تنتهي به خطواتهم يتجنبون الشعاف المرتفعة والحفر العميقة (قعارة) ليس فيها موارد للمياه ولا مصامد لمياه الامطار ولا علامات يهتدى بها غير منازل النجوم فى السماء . يسيرون نهارهم ويباتون ليلهم, وليل الصحراء ليس به مسرى فلا يقولون ( وعند الاصباح يحمد القوم السرى ) ومن اضاع طريقه او قل مائه لن يخرج منها ابدا, ومن دخلها وخرج سالما دخل بعمر جديد. إنها مغامرة رهيبة لا تغيب عن مخيلة احدهم على مدى سنينه يحكى تفاصيلها لابنائه واحفاده فيحملون بيارق الفخر والاعتزاز في نفوسهم لشجاعة من خلّفهم .
في نفود الشمال اشجار الغضى متراصة كالخيام وما بينها من فراغات يغطيها الارطى والعاذر والنصي والسبط ونباتات اخرى تحول بينها وبين اشعة الشمس فتجعل من الصحراء مصدر تكييف طبيعي توزع نسماتها الباردة على من هم بالجوار .
وحينما حلت بديارنا السيارات ذات الدفع الرباعي دفع بها اصحابها الى جوف الصحراء استباحوا حماها وهتكوا سترها دون رحمة ولا وازع من ضمير فاعملوا فيها القطع والشلع فانهارت تحت ضربات فؤسهم القاسية فقضوا على النباتات الكبيرة وماتت النباتات الصغيرة وتشرد ساكنيها أو اختطفتهم يد المنون , فاصبحت هذه الواحة الظليلة رمالا تذروها الرياح تبعث بلهيبها يشوي الوجوه, قلت فيها الامطار وتساوى الليل مع النهار . هذه الصدمة العنيفة زلزلت كيانها وهدت اركانها تندب حظها وتتجرع حسرتها على كنزها المفقود الذي ذهب ولن يعود .
حينما يغشاها الغيث يبلل روحها ويضمد جروحها تتنفس وتحاول النهوض فتجد اصحاب الفؤوس يحيطون بها من جميع الاتجاهات يتأبطون شرا ! تدعو بدعاء يعقوب عليه السلام : ( انما اشكو بثي وحزني الى الله ) ترنو الى يد رحيمة تمتد اليها .
ولو تسائلنا هل من مجير ؟ تبقى احلامنا أبعد من درب الحرير .
في كل بلدان العالم أماكن للراحة والاستجمام قرب البحار او على ضفاف الأنهار إلا سكان وسط جزيرة العرب حباهم الله الصحراء بما تحتويه من ثروة نباتية وحيوانية وجمالية.
وبعد كل ما كان وبعد ماحل بها من هوان وعلى الرغم مما دهاها وابكانا وابكاها, تبقى الصحراء هي الرئة التي يتنفس منها المحيطين بها يعشقونها ولا يريدون بها بديلا .
السحاب حينما يغشاها فيه برق ورعد وماء يتلاها تنبت من كل زوج بهيج وتشرق بنور ربها من قمر منير يسمو جمالها فوق كل ما سواها يتجه الناس اليها للمتعة والاستجمام وطرد ادران الحياة فيها متسع للجميع ولا فيها مضايقات كالتي نراها في شوارع المدينة .
فوق كل أرض شجرة مفضلة عند ساكنيها وتبقى شجرة الغضى هي المفضلة عند القريبين من صحراء الشمال وهي لا تنبت بغير أرض النفود لها ظل ظليل ونارها كأنها نور ورائحتها كانها بخور قالوا جمرة غضى .
تغنى بها الشعراء وكان ابلغهم مالك بن الريب يرحمه الله الذي حينما دنت منيته وهو بعيد عن الاهل والديار رثى نفسه بقصيدته المشهورة , لم يتمنى شوفة حبيب او قريب وكل الذي تمناه لو يزيد عمره ليلة واحدة يقضيها بجنب الغضى.
حيث قال:
ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً ******* بوادي الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا
فَليتَ الغضى لم يقطع الركبُ عرْضَه ****** وليت الغضى ماشى الرِّكاب لياليا
وفي البيت الثاني تمنى لو كان الغضى بصحبته ولا غاب عن عينيه طوال حياته وأنه سار معه اينما ذهب او حل وارتحل .
لست وحدك يابن الريب متيماً بحب الغضى غيرك خلق كثيرون وانا واحدا منهم . نبتة تستحق كل هذا الحب تزهو بجمالها ودلالها , لها فوائد وليس منها اضرار وتستحق ان تتوج ملكة على النباتات البرية . (عرفت قصيدة مالك ببكائية مالك بن الريب).
وبعيدا عن البكائيات من اراد ان يتمتع بالسحر الحلال عليه ان يغتنم فصل الربيع ويقضي ليلة او بعض ليلة على حافة الصحراء في الليالي المقمرة حينما يدنو القمر ويعم بنوره الارض الندية .. حينما تغطيها الزهور من كل لون منثور انفاسها تشفي الصدور مثلما حصل في ربيع هذا العام حيث هجر الناس بيوتهم واستوطنوا اطراف الصحرا حباً لها وحبا بما تأتي به من بهجة وسرور ..
التعليقات 8
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
عبدالملك الدغماني الرويلي
01/11/2019 في 1:30 م[3] رابط التعليق
هـﺬﺍ ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ ﺇﺩﺭﻳﺲ ﺟﻤَّﺎﻉ ﻫﻮ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻷﺑﻴﺎﺕ ﺍﻟﺸﻬﻴﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮﻝ ﻓﻴﻬﺎ :
إﻥ ﺣﻈﻲ ﻛﺪٓﻗﻴﻖٍ ﻓﻮﻕٓ ﺷﻮﻙٍ ﻧﺜﺮﻭﻩ ﺛﻢ ﻗﺎﻟﻮﺍ ﻟِﺤُﻔﺎﺓٍ ﻳﻮﻡَ ﺭﻳﺢٍ ﺍﺟﻤﻌﻮﻩ صعب الأمر عليهم قلت ياقوم اتركوه ﺇﻥ ﻣﻦ ﺃﺷﻘﺎﻩُ ﺭﺑﻲ ﻛﻴﻒ ﺃﻧﺘﻢ ﺗُﺴﻌﺪﻭه… لله درك يا ﺇﺩﺭﻳﺲ والله يرحمك
عبدالملك الدغماني الرويلي
30/10/2019 في 2:27 م[3] رابط التعليق
أعشق الشتاء، لأن المطرَ دائماً يشعرني بالطمأنينة فهناك رب لن يضيّعنا. مرحباً بالشتاء تتنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام رغم هدوء ليالي الشتاء إلّا أنك تجد ضجيجاً داخل قلبك أينما ذهبت،
عقل مناور الضميري
19/07/2019 في 12:19 م[3] رابط التعليق
الصحراء ، النخلة ، الجمل ، بيت الطين .
تلك الأسماء الأربعة لا بواكي لها إلا ما ندر ، بيئاتها ومنتجاتها وعالمها كادت تكون في الطريق الى الأفول ، زهد الناس بها دون سبب وبسرعة وكأنها ألدّ الأعداء ، تعاملوا معها بالإهمال والابتعاد وكأنهم أيضا يصرّون على البراءة من كل ماضيها وأثرها في تشكيل شخصية الانسان العربي .
الصندوق العقاري في بداياته يتحمل جزءً من المسؤولية والبلديات والتعليم والآثار والمتاحف والزراعة في شطرها المسؤول عن المراعي لم تبذل الجهد الكافي للحماية والتوعية .
أكمل نقص سيارات الدفع الرباعي أجهزة تحديد المواقع وأجهزة الاتصالات المحمول .
وإن كانت تلك الأجهزة والسيارات في حقيقتها نعمة كبيرة إلا أن سوء الاستخدام مع قلّة الوعي وتسلط بعض الأجانب والمواطنين على شجرة الغضا والأرطى عجل بمهمة التدمير ، إضافة لذلك فإن العادات التي يعزز وجودها وديمومتها الشعر أوالشيلات بالتغنّي بالقهوة والشاي على جمر الغضا – مع وجود كل انواع الوقود الاخرى ووفرتها كالكهرباء والغاز -، أقول ساهم في الإصرار على الاجهاز على مكونات الصحراء بعنف لا يزال يشاهد في بيوتنا ومجالسها .
الإبل والنخلة يبدو أنها نجت من ذلك الاهمال فعاد اليها الاهتمام والاستثمار والتقدير والحماية ، لكن الصحراء وبيت الطين لا تزال في عزلتها السلبية عن الحماية والصيانة والتطوير .
من وسائل حماية الصحراء أرى الإسراع في تكوين منتزهات طبيعية كبيرة على أطراف المدن وبجوار الصحراء ، لتكون بديلا مناسباً للراغبين في الرحلات البرية ، بحيث يتلو اكتمال انشاء هذه المنتزهات حظر كامل لعبور الصحاري – مناطق مختارة – أو الاحتطاب او التخييم أو الرعي لمدة مناسبة لتقوم بترميم ذاتها واستعادة عافيتها ومن ثم ينظم الدخول اليها وفق معايير ونظم تحافظ على مخزونها وغطائها البئي من العبث والانقراض .
إن كتابتك عن هذا الموضوع تؤكد شغفك بالطبيعة التي هي مسؤولية الجميع ولا يعذر لأحد إهمالها أو التعدي عليها .
أشكر استاذنا العزيز على إبداعاتك المتتالية ، وأدعو الله لك بالصحة والسعادة .
عقل الضميري
باجيو 19 يوليو 2019
فلحي بن عايد الفلحي
20/07/2019 في 7:04 ص[3] رابط التعليق
انت في كوكبة من الاصدقاء وجودكم في
حياتي يسعدني ويزيدني بهجة ويمدني
بالطاقه الايجابيه التي تدفعني للمزيد
ادامكم الله ضياء يبدد ظلمتي ٠
ام فيصل
17/07/2019 في 11:32 م[3] رابط التعليق
بسم الله الرحمن الرحيم.
بصراحة انا سمعت وقرأت كثيرا عن آلة الزمن في قصص الخيال العلمي التي يحاول البشر اختراعها للإنتقال من زمن الى آخر …
لكن انت فعلا ابدعت بأخذنا والسفر بنا الى ازمنة بعيدة وقصص جميلة نعيشها ونشاهدها ونستمتع بها كأنها حقيقة ونحن لم نرها ..
ابداع من مبدع واديب ..
المقال كأنه قصيدة شعرية وليست مقال👍🏼
خالد الحمد
17/07/2019 في 7:08 م[3] رابط التعليق
بوركت ودام عذب مدادك .
صورت بأسلوبك العذب الشجي أنين ووجع صحراء الجوف وكأني أسمعها تستغيث من معاول الجور والعبث . وعسى الله أن يهىء لها من يكف عنها ما أصابها من جور وعبث .
تمتعنا دائما وتتناول من همومنا وأوجاعنا ما يستحق أن يلتفت اليه .
دمت بهذا التألق .
سليمان محمد سليمان الكويليت
17/07/2019 في 11:29 ص[3] رابط التعليق
قصة جميله لمؤلفها ملكة الانشاء وموهبة التعبير والوصف وبعد الخيال ولو سخر لنفسه وقتا كافيا لابدع وابدع أحسنت أبا محمد
ابو سلطان
17/07/2019 في 10:46 ص[3] رابط التعليق
اسعد الله صباحك ايها الوالد القائد العزيز
كلمات ليست باقل من بكائية مالك في على جمال سردها الا انها فعلا مبكية باكية على حال النفود والصحاري الاخرى بما ت اجهه من حرب عشواء جاهله اسيادها وابطالها هم اكثر المتضررين من تلك الحرب ولكن لايعلمون…
ولكن تاكد ان الطبيعة لاتنسى حقها ابدا ولا تسكت عنه ولكنها صبور وقور علىاخذ ثأراتها..
وستعود علينا بعضبها بعد حين عتدما تكون جرداء فمع اول هبه ستلحق بنا وبابنائنا والاجيال جميع انواع الغبار والامراض واشتداد درجات الحرارة مع كثرة التصحر ناهيك عن فقد اعداد كبيرة من قطعان الاغنام والابل ومعها سترتفع اسعارها وما يتبعه من تبعات… والكثير الكثير من الخسائر ولعلي اذكر ابسطها وهي خسارت تلك المناظر الخلابة الجميلة الخضرة على وجه الصحراء
مع التحية