هناك أحداث تقع ومشاريع تُنفَّذ في مختلف البلدان والمدن بهذا العالم الذي نعيش فيه, تؤثر بشكل كبير في حياة الناس, وتُحدِث الكثير من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسكانية للمجتمعات البشرية, وربما تكون هذه التحولات في نظر البعض مجرد تصاميم هندسية وتغيُّرات شكلية للطرق والشوارع والميادين والأبنية, خالية من الآثار الاجتماعية والأبعاد الثقافية الأخرى, لمن ينظر بعينٍ قاصرة مُجردة من التفكير العميق, أومن لديه نظرة لا تتجاوز الحدود الضيقة إلى الآفاق البعيدة.
طريق الملك سعود في مدينة سكاكا, تم العمل على تدشينه ثم افتتاحه مؤخراً بتوجيهٍ كريم من قبل صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن نواف بن عبد العزيز أمير منطقة الجوف حفظه الله, ومتابعة حثيثة من نائبه صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن فهد بن تركي بن عبد العزيز رعاه الله, رئيس اللجنة العليا لدعم ومساندة المشاريع في المنطقة, وهو أحد المشاريع الحيوية التي تساهم في رفع كفاءة الطرق بالمدينة, وفك الاختناقات المرورية وتحسين المشهد الحضري واختصار الوقت لمرتادي الطريق وتوفير الخيارات والبدائل المناسبة أثناء تنقلاتهم.
تم افتتاح هذا الطريق ليصل شمال مدينة سكاكا بجنوبها, ويقتطع مساحة كبيرة من جسد هذه المدينة الغالية على قلوبنا, بعد عملية إزالة طويلة تمت على مراحل للعديد من المنازل التي كانت مسكناً لعوائل كريمة وأناسٍ طيِّبين من أهالي الجوف, وأزالت ركام البيوت التي نُزعت ملكياتها على فترات زمنية مختلفة, لاستكمال هذا المشروع الحيوي والاقتصادي, مُخلِّفة وراءها ذكريات السنين الجميلة وأيامها الحلوة التي احتضنتها الأزمنة الماضية.
ليس من السهل على أهالي الأحياء وسُكَّان الديار أن يُخلوا منازلهم ويرحلوا عن مساكنهم مهما كانت الاعتبارات, حتى لو قبضوا ثمن هذا الانتقال والرحيل مبالغ طائلة استحقوها كتثمين عن عقاراتهم المُزالة والتي تستهدفها خطط الدولة لتدشين المشاريع الحكومية التي تنفع المواطنين. فالمال مهما كان مهماً وضرورة بالغة من ضرورات الحياة, لا يُعوِّض لهؤلاء الراحلين عن أحيائهم ومنازلهم أجمل سنين العمر وذكرياتها ورحلة الكفاح التي عاشتها الأسر الجوفية في مساكنها المُزالة التي اختفت عن الوجود. ويأتي هذا من منظور الفكرة المبنية على قدسية الأوطان والأرض التي نشأ فيها الإنسان وعاش سنوات عمره الذهبية, والمجتمعات الإنسانية من طبيعتها الحفاظ على ممتلكاتها المتجذرة بالأصالة والقِدَم ومكان المنشأ المُبكِّر والتي تحمل في إرثها التاريخي والحضاري الكثير من مشاعر الاعتزاز في أنفس الناس, ومكانة بالغة في وجدانهم.
هناك من ينظر للمسألة من هذه الزاوية الحميمية فقط, ولعل قلة من الناس من يرفض فكرة الرحيل عن حارته التي ألِفها وإزالة منزله الذي عاش فيه طوال حياته مهما بلغت الأثمان, ويرى أن تنفيذ المشاريع الحكومية وإنشاء الطرق المُستحدثة, لا يغني أصحاب العقارات المُزالة عن فقدان أعز ما لديهم وهي بيوتهم ومنازلهم التي عاشوا فيها سنين طويلة, بالرغم من أهمية هذه الخطط التطويرية للمدينة وسُكَّانها.
ولكنَّ هذا الطريق الناشئ حديثاً والذي أصبح شرياناً حيوياً للمدينة, وأحد المشاريع الضرورية والهامة, أثار لديَّ العديد من الخواطر والمشاعر والتساؤلات وأنا أسير فيه كل يوم, مختصراً المسافة الطويلة التي كنت أقطعها كغيري من سُكَّان الجوف للانتقال من شمال الديرة إلى جنوبها والعكس, فهو ليس مجرد واجهة جمالية للمدينة فقط, ولا تتوقف آثاره عند اختصار الوقت فحسب, كما أن آثاره الإيجابية التي برزت بعد افتتاحه ليست اقتصادية بحتة, إنما هناك العديد من الآثار الاجتماعية البالغة والمتعلقة بالصلات العميقة والعلاقات التاريخية بين أحياء مدينة سكاكا الشمالية والجنوبية وروابط أهاليها المشتركة, إذ ربط بين هذه الأحياء الممتدة, وفتح نافذة واسعة لالتقاء الجيران بجيرانهم البعيدين عنهم, وساهم في تكوين مشاعات سكانية مختلفة عن السابق, وإحداث علاقات اجتماعية حديثة, وتشكيل روابط جديدة بين أسر وعوائل تلك الأحياء.
فالمنازل الواقعة على طرفي الطريق من الجهتين الشرقية والغربية, أصبحت متقابلة, وبالرغم من أن أصحاب هذه المنازل افتقدوا لجيرانهم المرتحلين عن جوارهم بعد نزع الملكيات, إلا أنهم في ذات الوقت اتصلوا جغرافياً بجيرانهم سكان المنازل التي كانت بعيدة عنهم, بعد فتح نافذة واسعة وتكوين هذه الإطلالة على الفضاء الرحب, وهنا يأتي دور علم الاجتماع السكاني والبشري في دراسة هذه التحولات الاجتماعية الناجمة جراء تنفيذ هكذا مشاريع اقتصادية وبلدية يتم تنفيذها تحقيقاً للصالح العام على المجتمعات الإنسانية, ليقرأ المسألة من هذه الزاوية, ونستنتج من خلال دراستنا لعلم الاجتماع أن هذا الطريق النافذ حمل مع بشائر افتتاحه واستخدامه الكثير من المتغيرات الثقافية والآثار الايجابية والمكاسب الاجتماعية المفيدة لأهالي المنطقة وقاطنيها.
لقد كانت البيوت والمنازل المُزالة قبل تدشين طريق الملك سعود في مدينة سكاكا, سلسلة من العِقْــد الاجتماعي الفريد الذي شكَّـل نسيج روابط الأسر والأهالي, وكل منزل كان موجوداً يوماً ما بمساحته المُقدرة على امتداد هذا المسار, اتصل بمنازل جيرانه الآخرين جنوباً وشمالاً, بالإضافة لمساحات واسعة من بيوت الطين القديمة التي لازالت بعضها موجودة على جانبي الطريق, ومزارع الأهالي وحُـوَطِهِـم ونخيلهم وآبارهم.
هذا التسلسل والامتداد لم يكن وليد الصدفة, بل هو امتداد لتاريخ طويل من مراحل الهجرة والارتحال والسَّكن والاستقرار في الأزمنة الغابرة لأهالي الجوف, وبسبب العديد من الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية, والتوزيع الجغرافي للمُكوِّن السكاني لمدينة سكاكا, وروابط الجماعات والحمائل والأسر الكريمة في هذه المدينة.
نقف باحترام أمام كل مساحة خالية وأرضٍ فضاء كانت يوماً ما منزلاً لعائلةٍ رحلت, ونذكر هذه الأسر الراحلة بكل خير ودعاء وذِكـرٍ طيِّب, ونتأمل كثيراً في التحولات الاقتصادية والسكانية والاجتماعية التي تمرُّ بها المجتمعات الإنسانية, ونُدرك كيف أن الحياة لا تتوقف عند حدٍّ معين, ولا نستطيع الإبقاء على شواهد التراث الأصيل الذي احتفظنا به لعقود طويلة من دون أن تخترقه رياح التغيير وتعصف به متغيِّرات الحياة. وكم نرى من بيوت الطين من مساكن الأجداد التي تحكي قصص الأصالة والكفاح وتروي بصمت مهيب حكايات الأفعال الغانمة والنبيلة لأسلافنا الأولين ونتمنى أن تبقى ولا تختفي ؟, ولكن ما نستطيع أن نفعله هو أن نقوم بتوثيقها وحفظها للأجيال القادمة, لكي يدرسوا تاريخهم وكيف كانت حياة أسلافهم.
طريق الملك سعود في مدينة سكاكا, هو واحدٌ من التحولات التي تدفعها ضرورات الحياة المدنية الحديثة ولا بد منها, لمسايرة التطوير واللحاق بحركة التقدم العمراني والمدني, فمدينة سكاكا تتطور بشكل متلاحق وسريع, والأهالي والسكان اليوم يرغبون بافتتاح المزيد من الكافيهات والمطاعم والمراكز التجارية والشوارع المخصصة للمشي والرياضة والحدائق والمرافق السياحية والترفيهية المتنوعة لمختلف فئات الأسرة من الرجال والنساء والأطفال, والمنطقة بمجملها مُقبلة بعون الله تعالى على مشاريع الخير والنماء في مختلف القطاعات وشتى الميادين في ظل هذا العهد الميمون لمولاي خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين يحفظهما الله, ولابد من إعادة قراءة الخارطة التخطيطية والتنظيمية والبلدية لمدينة سكاكا وضواحيها وقراها وللمنطقة بشكل عام, لأن الحياة تتطور وعجلة الزمن تمضي والأجيال القادمة
لديها احتياجاتها ومتطلباتها من المنشآت والمرافق والمباني والمشاريع في كافة المجالات, فحياة اليوم المليئة بتحديات العصر واحتياجاته ليست هي حياة الأمس المتميزة بالبساطة والهدوء.
في الختام, سلامي إلى تلك الأسر الراحلة عن منازلها وأحيائها, ستبقى ذكراكم طيبة للأبد.
* خاطــرة في زمــن الاغتـــراب,,,
زرتُ المنــازلَ والديـــارْ صـــارت بلا أهـــــــلٍ ودارْ
وبلا مســـاكنَ تحتــــوي جــــــــــاراً لــه أُنـــسٌ بجـــــــار
وفَنَـــــاءُ مَجلِــسِ أهلـِـهـا لبـسَ الظـلامَ وما استـنـار
هجــروا معالمَــهُ فبَـــــاتَ بلا حيـــــــــــــاةٍ وازدهـــــــــــــــــار
رحـــلَ الجميـــعُ كأنهــــم يومـاً قــد اتَّخـــــذوا القــــــرار
ألَّا يعــــودوا لأرضهــــم تلك المنـــــــــازل والديــــــــــــــار
كتبه:هيثم بن سعود السياط
التعليقات 2
عبدالملك الدغماني الرويلي
01/11/2019 في 1:30 م[3] رابط التعليق
هـﺬﺍ ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ ﺇﺩﺭﻳﺲ ﺟﻤَّﺎﻉ ﻫﻮ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻷﺑﻴﺎﺕ ﺍﻟﺸﻬﻴﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮﻝ ﻓﻴﻬﺎ :
إﻥ ﺣﻈﻲ ﻛﺪٓﻗﻴﻖٍ ﻓﻮﻕٓ ﺷﻮﻙٍ ﻧﺜﺮﻭﻩ ﺛﻢ ﻗﺎﻟﻮﺍ ﻟِﺤُﻔﺎﺓٍ ﻳﻮﻡَ ﺭﻳﺢٍ ﺍﺟﻤﻌﻮﻩ صعب الأمر عليهم قلت ياقوم اتركوه ﺇﻥ ﻣﻦ ﺃﺷﻘﺎﻩُ ﺭﺑﻲ ﻛﻴﻒ ﺃﻧﺘﻢ ﺗُﺴﻌﺪﻭه… لله درك يا ﺇﺩﺭﻳﺲ والله يرحمك
عبدالملك الدغماني الرويلي
30/10/2019 في 2:27 م[3] رابط التعليق
أعشق الشتاء، لأن المطرَ دائماً يشعرني بالطمأنينة فهناك رب لن يضيّعنا. مرحباً بالشتاء تتنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام رغم هدوء ليالي الشتاء إلّا أنك تجد ضجيجاً داخل قلبك أينما ذهبت،